فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{أَفَلَا ينظرون إِلَى الإبل كَيْفَ خلقت (17)}
اعلم أنه تعالى لما حكم بمجيء يوم القيامة وقسم أهل القيامة إلى قسمين الأشقياء والسعداء ووصف أحوال الفريقين وعلم أنه لا سبيل إلى إثبات ذلك إلا بواسطة إثبات الصانع الحكيم، لا جرم أتبع ذلك بذكر هذه الدلالة فقال: {أَفَلاَ ينظرون إِلَى الإبل} وجه الاستدلال بذلك على صحة المعاد أنها تدل على وجود الصانع الحكيم، ومتى ثبت ذلك فقد ثبت القول بصحة المعاد.
أما الأول: فلأن الأجسام متساوية في الجسمية فاختصاص كل واحد منها بالوصف الذي لأجله امتاز على الآخر، لابد وأن يكون لتخصيص مخصص وإيجاد قادر، ولما رأينا هذه الأجسام مخلوقة على وجه الإتقان والإحكام علمنا أن ذلك الصانع عالم، ولما علمنا أن ذلك الصانع لابد وأن يكون مخالفاً لخلقه في نعت الحاجة والحدوث والإمكان علمنا أنه غني، فهذا يدل على أن للعالم صانعاً قادراً عالما غنياً فوجب أن يكون في غاية الحكمة، ثم إنا نرى الناس بعضهم محتاجاً إلى البعض، فإن الإنسان الواحد لا يمكنه القيام بمهمات نفسه، بل لابد من بلدة يكون كل واحد من أهلها مشغولاً بمهم آخر حتى يتنظم من مجموعهم مصلحة كل واحد منهم، وذلك الانتظام لا يحسن إلا مع التكليف المشتمل على الوعد والوعيد، ذلك لا يحصل إلا بالبعث والقيامة وخلق الجنة والنار فثبت أن إقامة الدلالة على الصانع الحكيم توجب القول بصحة البعث والقيامة فلهذا السبب ذكر الله دلالة التوحيد في آخر هذه السورة.
فإن قيل: فأي مجانسة بين {الإبل} و{السماء} و{الجبال} و{الأرض}، ثم لم بدأ بذكر {الإبل}؟
قلنا: فيه وجهان:
الأول: أن جميع المخلوقات متساوية في هذه الدلالة وذكر جميعها غير ممكن لكثرتها وأي واحد منها ذكر دون غيره كان هذا السؤال عائداً، فوجب الحكم بسقوط هذا السؤال على جميع التقادير، وأيضًا فلعل الحكمة في ذكر هذه الأشياء التي هي غير متناسبة التنبيه على أن هذا الوجه من الاستدلال غير مختص بنوع دون نوع بل هو عام في الكل على ما قال: {وَإِن مّن شَيْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ} [الإسراء: 44] ولو ذكر غيرها لم يكن الأمر كذلك لا جرم ذكر الله تعالى أموراً غير متناسبة بل متباعدة جدًّا، تنبيهاً على أن جميع الأجسام العلوية والسفلية صغيرها وكبيرها حسنها وقبيحها متساوية في الدلالة على الصانع الحكيم، فهذا وجه حسن معقول وعليه الاعتماد.
الوجه الثاني: وهو أن نبين ما في كل واحد من هذه الأشياء من المنافع والخواص الدالة على الحاجة إلى الصانع المدبر، ثم نبين إنه كيف يجانس بعضها بعضاً.
أما المقام الأول: فنقول الإبل له خواص منها أنه تعالى جعل الحيوان الذي يقتنى أصنافاً شتى فتارة يقتنى ليؤكل لحمه وتارة ليشرب لبنه وتارة ليحمل الإنسان في الأسفار وتارة لينقل أمتعة الإنسان من بلد إلى بلد وتارة ليكون له به زينة وجمال وهذه المنافع بأسرها حاصلة في الإبل، وقد أبان الله عز وجل عن ذلك بقوله: {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أنعاما فَهُمْ لَهَا مالكون وذللناها لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس: 72-71]، قال: {والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْء ومنافع وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقالكُمْ إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بالغيه إِلاَّ بِشِقّ الأنفس} [النحل: 7-5] وإن شيئاً من سائر الحيوانات لا يجتمع فيه هذه الخصال فكان اجتماع هذه الخصال فيه من العجائب.
وثانيها: أنه في كل واحد من هذه الخصال أفضل من الحيوان الذي لا يوجد فيه إلا تلك الخصلة لأنها إن جعلت حلوبة سقت فأروت الكثير، وإن جعلت أكولة أطعمت وأشبعت الكثير، وإن جعلت ركوبة أمكن أن يقطع بها من المسافات المديدة ما لا يمكن قطعه بحيوان آخر، وذلك لما ركب فيها من قوة احتمال المداومة على السير والصبر على العطش والاجتزاء من العلوفات بما لا يجتزئ حيوان آخر، وإن جعلت حملة استغلت بحمل الأحمال الثقيلة التي لا يستقل بها سواها، ومنها أن هذا الحيوان كان أعظم الحيوانات وقعاً في قلب العرب ولذلك فإنهم جعلوا دية قتل الإنسان إبلاً، وكان الواحد من ملوكهم إذا أراد المبالغة في إعطاء الشاعر الذي جاءه من المكان البعيد أعطاه مائة بعير، لأن امتلاء العين منه أشد من امتلاء العين من غيره، ولهذا قال تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل: 6] ومنها أنى كنت مع جماعة في مفازة فضللنا الطريق فقدموا جملاً وتبعوه فكان ذلك الجمل ينعطف من تل إلى تل ومن جانب إلى جانب والجميع كانوا يتبعونه حتى وصل إلى الطريق بعد زمان طويل فتعجبنا من قوة تخيل ذلك بالحيوان أنه بالمرة الواحدة كيف انحفظت في خياله صورة تلك المعاطف حتى أن الذين عجز جمع من العقلاء إلى الاهتداء إليه فإن ذلك الحيوان اهتدى إليه، ومنها أنها مع كونها في غاية القوة على العمل مباينة لغيرها في الانقياد والطاعة لأضعف الحيوانات كالصبي الصغير، ومبآنية لغيرها أيضًا في أنها يحمل عليها وهي باركة ثم تقوم، فهذه الصفات الكثيرة الموجودة فيها توجب على العاقل أن ينظر في خلقتها وتركيبها ويستدل بذلك على وجود الصانع الحكيم سبحانه، ثم إن العرب من أعرف الناس بأحوال الإبل في صحتها وسقمها ومنافعها ومضارها فلهذه الأسباب حسن من الحكيم تعالى أن يأمر بالتأمل في خلقتها.
ثم قال تعالى: {وَإِلَى السماء كَيْفَ رفعت (18)}
أي رفعاً بعيد المدى بلا إمساك وبغير عمد.
{وَإِلَى الجبال كَيْفَ نصبت (19)}
نصباً ثابتاً فهي راسخة لا تميل ولا تزول.
{وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سطحت (20)}
سطحاً بتمهيد وتوطئة، فهي مهاد للمتقلب عليها، ومن الناس من استدل بهذا على أن الأرض ليست بكرة وهو ضعيف، لأن الكرة إذا كانت في غاية العظمة يكون كل قطعة منها كالسطح.
وقرأ علي عليه السلام {كيف خلقت} و{رفعت} و{نصبت} و{سطحت} على البناء للفاعل وتاء الضمير، والتقدير فعلتها، فحذف المفعول.
المقام الثاني: في بيان ما بين هذه الأشياء من المناسبة اعلم أن من الناس من فسر {الإبل} بالسحاب.
قال صاحب (الكشاف): ولعله لم يرد أن {الإبل} من أسماء السحاب، كالغمام والمزن والرباب والغيم والغين وغير ذلك، وإنما رأى السحاب مشبهاً بالإبل في كثير من أشعارهم، فجوز أن يراد بها السحاب على طريق التشبيه والمجاز، وعلى هذا التقدير فالمناسبة ظاهرة.
أما إذا حملنا {الإبل} على مفهومه المشهور، فوجه المناسبة بينها وبين {السماء} و{الجبال} و{الأرض} من وجهين:
الأول: أن القرآن نزل على لغة العرب وكانوا يسافرون كثيراً، لأن بلدتهم بلدة خالية من الزرع، وكانت أسفارهم في أكثر الأمر على الإبل، فكانوا كثيراً ما يسيرون عليها في المهامة والقفار مستوحشين منفردين عن الناس، ومن شأن الإنسان إذا انفرد أن يقبل على التفكر في الأشياء، لأنه ليس معه من يحادثه، وليس هناك شيء يشغل به سمعه وبصره، وإذا كان كذلك لم يكن له بد من أن يشغل باله بالفكرة، فإذا فكر في ذلك الحال وقع بصره أول الأمر على الجمل الذي ركبه، فيرى منظراً عجيباً، وإذا نظر إلى فوق لم ير غير السماء، وإذا نظر يميناً وشمالاً لم ير غير الجبال، وإذا نظر إلى ما تحت لم ير غير الأرض، فكأنه تعالى أمره بالنظر وقت الخلوة والانفراد عن الغير حتى لا تحمله داعية الكبر والحسد على ترك النظر، ثم إنه في وقت الخلوة في المفازة البعيدة لا يرى شيئاً سوى هذه الأشياء، فلا جرم جمع الله بينها في هذه الآية.
الوجه الثاني: أن جميع المخلوقات دالة على الصانع إلا أنها على قسمين: منها ما يكون للحكمة وللشهوة فيها نصيب معاً، ومنها ما يكون للحكمة فيها نصيب، وليس للشهوة فيها نصيب.
والقسم الأول: كالإنسان الحسن الوجه، والبساتين النزهة، والذهب والفضة وغيرها، فهذه الأشياء يمكن الاستدلال بها على الصانع الحكيم، إلا أنها متعلق الشهوة ومطلوبة للنفس، فلم يأمر تعالى بالنظر فيها، لأنه لم يؤمن عند النظر إليها وفيها أن تصير داعية الشهوة غالبة على داعية الحكمة فيصير ذلك مانعاً عن إتمام النظر والفكر وسبباً لاستغراق النفس في محبته.
أما القسم الثاني: فهو كالحيوانات التي لا يكون في صورتها حسن، ولكن يكون داعية تركيبها حكم باللغة وهي مثل الإبل وغيرها، إلا أن ذكر {الإبل} هاهنا أولى لأن إلف العرب بها أكثر وكذا {السماء} و{الجبال} و{الأرض}، فإن دلائل الحدوث والحاجة فيها ظاهرة، وليس فيها ما يكون نصيباً للشهوة، فلما كان هذا القسم بحيث يكمل نصيب الحكمة فيه مع الأمن من زحمة الشهوة لا جرم أمر الله بالتدبر فيها فهذا ما يحضرنا في هذا الموضع وبالله التوفيق.
{فذكر إِنَّمَا أَنْتَ مذكر (21)}
اعلم أنه تعالى لما بين الدلائل على صحة التوحيد والمعاد، قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: {فذكر إِنَّمَا أَنتَ مذكر} وتذكير الرسول إنما يكون بذكر هذه الأدلة وأمثالها والبعث على النظر فيها والتحذير من ترك تلك، وذلك بعث منه تعالى للرسول على التذكير والصبر على كل عارض معه، وبيان أنه إنما بعث لذلك دون غيره، فلهذا قال: {إِنَّمَا أَنتَ مذكر}.
{لَسْتَ عَلَيْهِمْ بمصيطر (22)}
قال صاحب (الكشاف): {بمصيطر} بمسلط، كقوله: {يَقولونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق: 45] وقوله: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99] وقيل: هو في لغة تميم مفتوح الطاء على أن سيطر متعد عندهم، والمعنى أنك ما أمرت إلا بالتذكير، فأما أن تكون مسلطاً عليهم حتى تقتلهم، أو تكرههم على الإيمان فلا، قالوا: ثم نسختها آية القتال، هذا قول جميع المفسرين، والكلام في تفسير هذا الحرف قد تقدم عند قوله: {أَمْ هُمُ المُصَيْطِرُونَ} [الطور: 37].
أما قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ تولى وكفر (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعذاب الأكبر (24)} ففيه مسائل:
المسألة الأولى:
في الآية قولان:
أحدهما: أنه استثناء حقيقي، وعلى هذا التقدير هذا الاستثناء، استثناء عماذا؟ فيه احتمالان الأول: أن يقال التقدير: فذكر إلا من تولى وكفر.
والثاني: أنه استثناء عن الضمير في {عَلَيْهِمْ} [الغاشية: 22] والتقدير: لست عليهم بمسيطر إلا من تولى.
واعترض عليه بأنه عليه السلام ما كان حينئذ مأموراً بالقتال وجوابه: لعل المراد أنك لا تصبر مسلطاً إلا على من تولى القول الثاني: أنه استثناء منقطع عما قبله، كما تقول في الكلام: قعدنا نتذكر العلم، إلا أن كثيراً من الناس لا يرغب، فكذا هاهنا التقدير لست بمسئول عليهم، لكن من تولى منهم فإن الله يعذبه العذاب الأكبر الذي هو عذاب جهنم، قالوا وعلامة كون الاستثناء منقطعاً حسن دخول أن في المستثني، وإذا كان الاستثناء متصلاً لم يحسن ذلك، ألا ترى أنك تقول: عندي مائتان إلا درهماً، فلا تدخل عليه أن، وهاهنا يحسن أن، فإنك تقول: إلا أن من تولى وكفر فيعذبه الله.
المسألة الثانية:
قرئ: {ألا من تولى} على التنبيه، وفي قراءة ابن مسعود: {فإنه يعذبه}.
المسألة الثالثة:
إنما سماه {العذاب الأكبر} لوجوه:
أحدها: أنه قد بلغ حد عذاب الكفر وهو الأكبر، لأن ما عداه من عذاب الفسق دونه، ولهذا قال تعالى: {وَلَنُذيقَنَّهُمْ مّنَ العذاب الأدنى دُونَ العذاب الأكبر} [السجدة: 21].
وثانيها: هو العذاب في الدرك الأسفل في النا.
وثالثها: أنه قد يكون {العذاب الأكبر} حاصلاً في الدنيا، وذلك بالقتل وسبي الذرية وغنيمة الأموال، والقول الأول أولى وأقرب.
ثم قال تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إيابهم (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حسابهم (26)}
وهذا كأنه من صلة قوله: {فَيْعَذِّبُهُ الله العذاب الأكبر} [الغاشية: 24] وإنما ذكر تعالى ذلك ليزيل به عن قلب النبي صلى الله عليه وسلم حزنه على كفرهم، فقال: طب نفساً عليهم، وإن عاندوا وكذبوا وجحدوا فإن مرجعهم إلى الموعد الذي وعدنا، فإن علينا حسابهم.
وفيه سؤال: وهو أن محاسبة الكفار إنما تكون لإيصال العقاب إليهم وذلك حق الله تعالى، ولا يجب على المالك أن يستوفي حق نفسه؟
والجواب: أن ذلك واجب عليه إما بحكم الوعد الذي يمتنع وقوع الخلف فيه، وإما في الحكمة، فإنه لو لم ينتقم للمظلوم من الظالم لكان ذلك شبيهاً بكونه تعالى راضياً بذلك الظلم وتعالى الله عنه، فلهذا السبب كانت المحاسبة واجبة.
وهاهنا مسألتان:
المسألة الأولى:
قرأ أبو جعفر المدني: {إيابهم} بالتشديد.
قال صاحب (الكشاف): وجهه أن يكون فيعالا مصدره أيب فيعل من الإياب، أو يكون أصله أواباً فعالاً من أوب، ثم قيل: إيواباً كديوان في دون، ثم فعل به ما فعل بأصل سيد.
المسألة الثانية:
فائدة تقديم الظرف التشديد بالوعيد، فإن {إيابهم} ليس إلا إلى الجبار المقتدر على الانتقام، وأن حسابهم ليس بواجب إلا عليه، وهو الذي يحاسب على النقير والقطمير، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. اهـ.

.قال القرطبي:

{أَفَلَا ينظرون إِلَى الإبل كَيْفَ خلقت (17)}
قال المفسرون: لما ذكر الله عز وجل أمر أهل الدارين، تعجّب الكفار من ذلك فكذّبوا وأنكروا؛ فذكرهُمُ الله صنعته وقدرته؛ وأَنه قادر على كل شيء، كما خلق الحيوانات والسماء والأرض.
ثم ذكر الإبل أولاً، لأنها كثيرة في العرب، ولم يَرَوُا الفِيلة، فنبههم جل ثناؤه على عظيم من خَلْقه؛ قد ذلله للصغير، يقوده ويُنيخه وينهضه ويحمل عليه الثقيل من الحِمل وهو بارك، فينهض بثقيل حمله، وليس ذلك في شيء من الحيوان غيره. فأراهم عظيماً من خَلقه، مسخراً لصغير من خلقه؛ يدلهم بذلك على توحيده وعظيم قدرته.
وعن بعض الحكماء: أنه حدّث عن البعير وبديع خَلْقه، وقد نشأ في بلاد لا إبل فيها؛ ففكر ثم قال: يوشِك أن تكون طوال الأعناق.
وحين أراد بها أن تكون سفائن البر، صبَّرها على احتمال العطش؛ حتى إن إظماءها ليرتفع إلى العشر فصاعداً، وجعلها ترعى كل شيء نابت في البراريّ والمفاوز، مما لا يرعاه سائر البهائم.
وقيل: لما ذكر السُّرُر المرفوعة قالوا: كيف نصعدها؟ فأنزل الله هذه الآية، وبين أن الإبل تَبْرُك حتى يحمل عليها ثم تقوم؛ فكذلك تلك السُّرُر تتطامن ثم ترتفع.
قال معناه قتادة ومقاتل وغيرهما.
وقيل: الإبل هنا القِطع العظيمة من السحاب؛ قاله المبرَّد.
قال الثعلبيّ: وقيل في الإبل هنا: السحاب، ولم أجد لذلك ذلك أصلاً في كتب الأئمة.
قلت: قد ذكر الأصمعيّ أبو سعيد عبدُ الملك بن قُرَيب.
قال أبو عمرو: من قرأها {أفلا ينظرون إِلى الإبل كيف خلقت} بالتخفيف: عنى به البعير، لأنه من ذوات الأربع، يَبرُك فتحمل عليه الحَمولة، وغيره من ذوات الأربع لا يحمل عليه إلا وهو قائم.
ومن قرأها بالتثقيل فقال: {الإبل}، عنى بها السحاب التي تحمل الماء والمطر.
وقال الماورديّ: وفي {الإبل} وجهان:
أحدهما: وهو أظهرهما وأشهرهما: أنها الإبل من النَّعَم.
الثاني: أنها السحاب.
فإن كان المراد بها السحاب، فلما فيها من الآيات الدالة على قدرته، والمنافع العامة لجميع خلقه.
وإن كان المراد بها الإبل من النَّعَم، فلأن الإبل أجمع للمنافع من سائر الحيوان؛ لأن ضروبه أربعة: حَلُوبة، ورَكُوبة، وأَكُولة، وحَمُولة.
والإبل تجمع هذه الخِلال الأربع؛ فكانت النعمة بها أعم، وظهور القدرة فيها أتم.
وقال الحسن: إنما خصها الله بالذكر لأنها تأكل النَّوَى والقَتّ، وتخرج اللبن.
وسئل الحسن أيضًا عنها وقالوا: الفيل أعظم في الأعجوبة: فقال: العرب بعيدة العهد بالفيل، ثم هو خنزير لا يُؤكل لحمه، ولا يُركب ظهره، ولا يحلب درّه.
وكان شُرَيْح يقول: اخرجوا بنا إلى الكُناسة حتى ننظر إلى الإبل كيف خلقت.
والإبل: لا واحد لها من لفظها، وهي مؤنثة؛ لأن أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها، إذا كانت لغير الآدميين، فالتأنيث لها لازم، وإذا صغرتها دخلتها الهاء، فقلت: أُبيلة وغنيمة، ونحو ذلك.
وربما قالوا للإبل: إِبْل، بسكون الباء للتخفيف، والجمع: آبال.
قوله تعالى: {وَإِلَى السماء كَيْفَ رفعت} أي رفعت عن الأرض بلا عَمَد.
وقيل: رفعت، فلا ينالها شيء.
{وإلى الجبال كَيْفَ نصبت} أي كيف نصبت على الأرض، بحيث لا تزول؛ وذلك أن الأرض لما دُحِيت مادت، فأرساهَا بالجبال.
كما قال: {وَجَعَلْنَا فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ} [الأنبياء: 31].
{وَإِلَى الأرض كَيْفَ سطحت} أي بُسطت ومُدَّتْ.
وقال أنس: صليت خلف علي رضي الله عنه، فقرأ: {كَيفَ خلقت} و{رفعت} و{نصبت} و{سطحت}، بضم التاءات؛ أضاف الضمير إلى الله تعالى.
وبه كان يقرأ محمد بن السَّميْقَع وأبو العالية؛ والمفعول محذوف، والمعنى خلقتها.
وكذلك سائرها.
وقرأ الحسن وأبو حَيْوة وأبو رجاء: {سطحت} بتشديد الطاء وإسكان التاء.
وكذلك قرأ الجماعة، إلا أنهم خففوا الطاء.
وقدّم {الإبل} في الذكر، ولو قدّم غيرها لجاز.
قال القشيريّ: وليس هذا مما يطلب فيه نوع حكمة.
وقد قيل: هو أقرب إلى الناس في حق العرب، لكثرتها عندهم، وهم من أعرف الناس بها.
وأيضًا: مَرافق الإبل أكثر من مرافق الحيوانات الأُخَر؛ فهي مأكولة، ولبنها مشروب، وتصلح للحمل والركوب، وقطع المسافات البعيدة عليها، والصبر على العطش، وقلة العَلَف، وكثرة الحَمْل، وهي مُعْظم أموال العرب.
وكانوا يسيرون على الإبل منفردين مستوحشين عن الناس، ومَنْ هذا حاله تفكر فيما يحضره، فقد ينظر في مركوبه، ثم يمد بصره إلى السماء، ثم إلى الأرض.
فأُمِروا بالنظر في هذه الأشياء، فإنها أدل دليل على الصانع المختار القادر.
قوله تعالى: {فذكر} أي فعِظهم يا محمد وخوّفهم.
{إِنَّمَآ أَنتَ مذكر} أي واعظ.
{لَّسْتَ عَلَيْهِم بمصيطر} أي بمسَلَّط عليهم فتقتلهم.
ثم نسختها آية السيف.
وقرأ هارون الأعور {بمسيطر} (بفتح الطاء)، و{الْمُسيْطَرُون}.
وهي لغة تميم.
وفي الصحاح: المسيطِر والمصيطِر: المسلّط على الشيء، ليشرِف عليه، ويتعهد أحواله، ويكتب عمله، وأصله من السطر، لأن من معنى السطر ألا يتجاوز، فالكتاب مسطر، والذي يفعله مسطر ومسيطِر؛ يقال: سيطرت علينا، وقال تعالى: {لَّسْتَ عَلَيْهِم بمسيطر}.
وسَطَرَه أي صَرَعَه.
{إِلاَّ مَن تولى وكفر} استثناء منقطع، أي لكن من تولى عن الوعظ والتذكير.
{فَيْعَذِّبُهُ الله العذاب الأكبر} وهي جهنم الدائم عذابها.
وإنما قال: {الأكبر} لأنهم عذبوا في الدنيا بالجوع والقَحْط والأسر والقتل.
ودليل هذا التأويل قراءة ابن مسعود: {إِلا مَنْ تولى وكفر فإنه يعذبه الله}.
وقيل: هو استثناء متصل.
والمعنى: لست بمسلّط إلا على من تولى وكفر، فأنت مُسَلَّط عليه بالجهاد، والله يعذبه بعد ذلك العذاب الأكبر، فلا نسخ في الآية على هذا التقدير.
ورُوِي أن علياً أتِي برجل ارتد، فاستتابه ثلاثة أيام، فلم يعاود الإسلام، فضرب عنقه.
وقرأ {إِلاَّ مَن تولى وكفر}.
وقرأ ابن عباس وقتادة {ألا} على الاستفتاح والتنبيه، كقول امرئ القيس:
أَلاَ رُبَّ يوم لَكَ مِنْهُنَّ صَالِحٍ

و{من} على هذا: للشرط.
والجواب {فَيْعَذِّبُهُ الله} والمبتدأ بعد الفاء مضمر، والتقدير: فهو يعذبه الله، لأنه لو أريد الجواب بالفعل الذي بعد الفاء لكان: إلا من تولى وكفر يعذبه الله.
{إِنَّ إِلَيْنَآ إيابهم} أي رُجوعهم بعد الموت.
يقال: آب يؤوب؛ أي رجع.
قال عَبيد:
وكُلّ ذي غَيْبَةٍ يؤوب ** وغائب الموتِ لا يؤوب

وقرأ أبو جعفر {إيابهم} بالتشديد.
قال أبو حاتم: لا يجوز التشديد، ولو جاز لجاز مثله في الصيام والقيام.
وقيل: هما لغتان بمعنى.
الزمخشري: وقرأ أبو جعفر المدنيّ {إيابهم} بالتشديد؛ ووجهه أن يكون فِيْعالا: مصدر أيب، قيل من الإياب.
أو أن يكون أصله إوّاباً فِعّالا من أوّب، ثم قيل: إيواباً كدِيوان في دِوّان.
ثم فعل ما فعل بأصل سيد ونحوه. اهـ.